الأربعاء, 12 كانون1/ديسمبر 2012 21:46

قصة للمربيين أطفالنا أمانه بأعناقكم

كتبه  د/ محمد بن أحمد الرشيد
قييم هذا الموضوع
(3 أصوات)


قال : بداية القصة كانت حين كلفت بتدريس مادة القرآن الكريم والتوحيد للصف الثالث الابتدائي قبل نهاية الفصل الدراسي الأول بشهر واحد ، حينها طلبت من كل تلميذ أن يقرأ، حتى أعرف مستواهم ، وبعدها أضع خطتي حسب المستوى الذي أجده عندهم . فلما وصل الدور إلى أحد التلاميذ ، وكان قابعاً في آخر زاوية في الصف ، قلت له اقرأ.. قال الجميع بصوت واحد (ما يعرف، ما يعرف يا أستاذ ) ؛ فآلمني الكلام ، وأوجعني منظر الطفل البريء الذي احمر وجهه ، وأخذ العرق يتصبب منه ، دق الجرس ،

 

وخرج التلاميذ للفسحة ، وبقيتُ مع هذا الطفل الذي آلمني وضعه ، وتكلمت معه ، أناقشه ، لعلي أساعده ، فاتضح لي أنه محبط ، وغير واثق من قدراته ، حتى هانت عليه نفسه ؛ لأنه يرى أن جميع التلاميذ أحسن منه ، وأنه لا يستطيع أن يقرأ مثلهم ، ذهبت من فوري ، وطلبت ملف هذا الطفل ؛ لأطلع على حالته الأسرية ، فوجدته من أسرة ميسورة ، ويعيش مع أمه ، وأبيه ، وإخوته ، وبيته مستقر، واستنتجت بعدها أن الدمار النفسي الذي يسيطر عليه ليس من البيت والأسرة ، بل إنه من المدرسة .

ويرجع السبب حتماً إلى موقف محرج عرض له من معلم ، أو زميل صده بعنف ، أو تهكم على إجابته ، أو قراءته ، شعر بعدها بهوان النفس والإحباط، وأخذت المواقف المحرجة والإحباطات تتراكم عليه في كل حصة من المعلمين والزملاء ، عندها فكرت جدياً في انتشال هذا الطفل مما هو فيه ، خاصة وأنني أعرف بحكم الخبرة مع الأطفال أن كل ذكي حساس، وكل ذكي مرهف المشاعر ، ولا يدافع عن نفسه ، ولا يدخل في مهاترات قد يكون بعدها أكثر خسارة.

وبدأت معه خطتي ، بأن غيرت مكان جلوسه ، وأجلسته أمامي في الصف الأول ، وقررت أن أعطي هذا التلميذ تميزاً لا يوجد إلا فيه وحده ، ليتحدى به الجميع ، وعندها تعود له ثقته بنفسه ، ويشعر بقيمته وإنسانيته بين زملائه ، خاصة بعد أن عرفت قوة ذكائه .

كتبت له جملة صعبة النطق ، وأفهمته معاني كلماتها ، حتى يتخيلها فيسهل عليه حفظها .

كنا نرددها ونحن صغار، كتبتها على ورقة صغيرة ، ووضعت عليها الحركات ، وقلت له: أحفظ هذه الجملة غيباً بسرعة ، ولا يطَّلع عليها أحد من أسرتك ، ولا من زملائك ، وراجعتها معه خلسة عن أعين التلاميذ حين خرجوا إلى الفسحة ، إذ لم يكن هو حريصاً على الفسحة ، لأنه ليس له صاحب ولا رفيق ، وكنت قد عودت تلاميذي على أن أروي لهم قصة في نهاية كل حصة شريطة أن يؤدوا كل ما أكلفهم به من حفظ وواجبات ، وإذا تعثر بعضهم أو أحدهم في الحفظ أو الواجب منعت عنهم القصة ، ليساعدوا زميلهم المتعثر في حفظه ، أو واجبه ، ويعاتبوه لأنه ضيَّع عليهم القصة .

بعدها التزم الجميع بواجباتي لهم؛ حفاظاً على رضاي، وتشوقاً إلى استمرار القصة.

وفي أحد الأيام ، وبعد أن قام الجميع بالتسميع طلبوا مني إكمال قصة الأمس ، فقلت لهم: إلى أين وصلنا فيها ؟ قالوا: وصلنا عند السيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ديار بني سعد ، ماذا حدث بعد ذلك ؟

فقلت لهم : لن أكملها لكم اليوم ، فتساءلوا جميعاً : لماذا يا أستاذ ؟ كلنا أدينا التسميع والواجبات !

قلت له م : عندي قصة جديدة ، أرويها لكم اليوم فقط ، وغداً نعود لإكمال قصة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا وما هي ؟ فسردت عليهم قصة من خيالي ،من أجل أن أُدخل فيها الجملة الصعبة التي حفظها ذلك الطالب وفهمها سلفاً ، وقلت لهم : إن هناك جماعة يسكنون قرية واحدة يقال لهم (القراقبة) ، كانوا يحتفلون بعيد الأضحى ، ويذبحون فيه البقر ، ويتفاخرون بذبائحهم ، حتى أن كل واحد منهم يربي بقرته من شهر الحج إلى شهر الحج سنة كاملة ، يغذيها بأجود الأعلاف ، حتى تكون سمينة ، وكان عند (علي القرقبي) بقرة يربطها أمام باب بيته في القرية ، وكانت أكبر وأسمن بقرة في القرية كلها ، والكل يتمنون متى يأتي الحج ، وتذبح هذه البقرة، ليشربوا من مرقها ، ويأكلوا من لحمها .

ولكن المشكلة أن أهل القرية عندهم عادة هي أنهم إذا ذبحوا الأضاحي يطبخون رقابها، ويضعون المرق في أوانٍ ، تجمع في المكان الذي يتعايدون فيه ، فدخل الشباب وأخذوا يتذوقون المرق من كل إناء، فصاح أحدهم مفتخراً بذكائه: عرفتها، عرفتها، فقالوا له: ماذا عرفت؟

قال: (أنا عرفت مرقة رقبة بقرة علي القرقبي من بين مراق رقاب أبقار القراقبة) .

وبعد هذه العبارة قلت لتلاميذي: من الذكي الذي يعيد هذه العبارة، فتفاجئوا جميعاً ، وطلبوا مني إعادته ا، فأعدتها لهم، وقلت: من الذكي الذي يعيدها ؟ فحاول رائد الصف ، والذين يشعرون في أنفسهم بالتميز ، فلم يستطيعوا إعادة حتى ثلاث كلمات منها ، فقلت لهم : هذه لا يستطيع أن يقولها إلا ذكي فهم معناها ، أين الذكي فيكم؟ والذي يريد المشاركة أطلب منه الخروج عند السبورة ومواجهة زملائه ، وأنا أنظر إلى هذا التلميذ ، فإذا نظرت إليه يخفض يده ؛ لأنه يخشى الإخفاق ، فثقته بنفسه معدومة ، خاصة أنه رأى فلاناً وفلاناً من الذين يشار إليهم بالبنان يتعثرون ، وأين هو من هؤلاء الذين أخفقوا ؟ وإذا أعرضت عنه ألمحُ أنه يرفع إصبعه عالياً .

وبعد أن عجز الجميع طلبت من هذا الصبي:

1- أن يقول الجملة وهو جالس في مكانه ، وذلك لخوفي عليه إذا خرج ونظر إلى التلاميذ أن يصيبه البكم الاختياري ، من شدة خجله وحساسيته ، فقالها وهو جالس على كرسيه ؛ فصفقت له ، وإذا بي أنا الوحيد المصفق ، وكأن التلاميذ لم يصدقوني ، لأنه قالها بصوت خافت ، علاوة على أن التلاميذ لم يلقوا له بالاً.

2- طلبت منه إعادتها مرة ثانية ، ولكن أمرته بالوقوف في مكانه ، مع رفع الصوت ، وابتسمت في وجهه ، وقلت له : أنت البطل ، أنت أذكى من في الفصل ، فقام وأعاد الجملة ، ورفع صوته ، فصفقت له أنا ومن حوله من التلاميذ ، فقال الآخرون : قالها يا أستاذ ! قلت نعم ، لأنه ذكي .

3- الآن وثقت من هذا التلميذ العجيب بعد أن حمسته ، وشجعته ، وظهر لي ذلك في نبرات صوته .

فقلت: أخرج أمام السبورة ، وقلها مرة أخرى ، وأخذت أشحذ همته وشجاعته ، أنت الذكي ، أنت البطل ، فخرج وقالها والجميع منصتون ، ويستمعون في ذهول.

4- ثم طلب مني التلاميذ أن آمره بأن يعيدها لهم.. فرفضت طلبهم ، وقلت لهم : اطلبوا أنتم منه . وهدفي من ذلك أولاً: أن أشعرهم أنه أحسن منهم ، وأنه ذكي ، وثانياً: حتى يثق هو بنفسه ، وأن التلاميذ يخطبون وده ، وأنه مهم بينهم ، وثالثاً:أن الفهم الذي عنده ليس عند غيره ، وأن التلعثم وتقطيع الكلام الذي كان يصيبه أصاب جميع زملائه في هذا الموقف.

5- وطلبوا منه الإعادة مرة أخرى ، فأخذت بيده ، وقلت لهم أتعبتموه وهو يعيد لكم وأنتم لا تحفظون ، ولا تفهمون ، لأنني على ثقة أنهم سيطلبون إعادتها منه مرات كثيرة ، فتركت ذلك له حتى يزداد ثقة بنفسه.

6- دق جرس انتهاء الحصة ، وجاء وقت النزول إلى فناء المدرسة للفسحة ، فلم يخرجوا من الصف إلا بهذا الطالب معهم ، وأخذوا ينادونه باسمه ، وكوّنوا كوكبة تمشي وهو يمشي بينهم كأنه قائد ، أو لاعب كرة يحمل الكأس ، والفريق من حوله ، فخرجت خلفهم، وشاهدت التلاميذ ينادون إخوانهم وأصدقاءهم في الصفوف العليا ،

ويجتمعون حول هذا الطالب النجيب وهو يعيد لهم ، وهم يرددون خلفه ، وهو يصحح لهم .

وكثر أصدقاء هذا الولد وجلساؤه بعد أن كان نسياً منسياً ، ووثق بنفسه ، وفي هذا اليوم نفسه طلبت منه أن يعرض هذه الجملة على أبيه وأمه ، وإخوته ، وجميع معارفه ، وأن يتحداهم بإعادتها ، وما هو إلا أسبوع واحد وجاءت إجازة نصف العام ، وهنا ينبغي التنويه إلى أن حفظ تلك العبارة جاء نتيجة الفهم لمعناها.

إذ إن عدم إدراك مفهوم كل كلمة فيها سيجعل حفظها حفظاً ببغاوياً ، وهو ما ليس ينشده التربويون.

وبعد الإجازة جاء والده إلى المدرسة ، ولأول مرة أقابله ، فقال: جزآك الله خيراً يا أستاذ ، بارك الله لك في أولادك ، جزاء ما فعلت مع ولدي ، وقال: لقد سألني الأقارب الذين زارونا في الإجازة : من هو الطبيب الذي عالجت عنده ولدك ، إذ كنا نعرفه يتهته في كلامه ، خجولاً منطوياً على نفسه ، والآن تحدى الكبار والصغار رجالاً ونساءً ، وتحداهم بإعادة جملة صعبة ، عجزنا نحن أن نرددها بعده ، فقلت لهم إنه معلمه عوض الزايدي، جزاه الله خيراً .

واستمرت علاقتي بالأب حتى الآن ، وأخذ يخبرني عن ولده ، وأنه انطلق بعد هذه القصة العلاجية وحقق ما لم يكن متوقعاً أبدا.

1- حفظ القرآن الكريم كاملاً ، وأصبح عضواً فاعلاً في نشاطات الجماعة ورحلاتها.

2- تخرج في الثانوية العامة القسم العلمي بامتياز، حيث حقق 96% في المجموع الكلي للدرجات.

3- التحق بالجامعة قسم الرياضيات ، وفي كل سنة دراسية كان ينال الكثير من شهادات الشكر والثناء والتميز، حتى أنه تخرج بامتياز مع مرتبة شرف.

4- عُين معيداً في إحدى الكليات بجامعاتنا.. وعلمت أنه حصل على قبول للدراسات العليا في واحدة من أعرق الجامعات العالمية ، ولا يزال المستقبل الواعد ينتظره بالكثير ، خاصة أنه ذاق حلاوة تميزه.

هذا ... وإني لعلى يقين من أن أحداث هذه القصة الكبيرة جداً.. العظيمة أثراً لا تحتاج إلى تعليق ، أو في حاجة إلى ثناء وتقدير للمعلم الذي هو بطلها ، وفاعل حقيقي لأحداثها ، وإني لأدعو الكُتَّاب إلى تلمس مثل هذه النجاحات وإبرازها ، وعدم الإقلال من شأنها؛ لأن لها مردودها العظيم على الأجيال كلها ، كما عرفنا.

هكذا تكون التربية الناجعة، وهكذا المربي المحلق الناجح

 

المصدر : www.kidworldmag.com

إقرأ 13137 مرات
FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed