طباعة

الأغتراب وتعاطي المخدرات عند الشباب

Posted in المجتمع

drugيمكن عد الأغتراب ( Alienation) بمثابة المناخ الملائم لنمو وترسيخ العديد من المشكلات والأضطرابات النفسية والسلوكية والتي تنحو المنحى السالب بمفهوم الصحة النفسية عند الفرد، وأن هذا المفهوم يضم بين طياته العديد من المشاعر السالبة والتي تنزلق بالفرد نحو الهاوية والسقوط، حيث تتمثل هذه المشاعر بالعجز والعزلة واللامعنى والتمرد واللامعيارية... الخ، وكلها تعد بمثابة المعاول المهدمه للبناء الشخصي والأجتماعي بشكل أعم.


أن اقدام المتعاطي على المخدرات لايخلو اساساً من أنه يعاني في حقيقة الأمر نوعاً من أنواع الأغتراب سواء كان نفسي ، أجتماعي، ثقافي، سياسي، أقتصادي أو ديني وبالتالي فأن الفرد في اقدامه على التعاطي والذي يؤثر بشكل فعال على جهازه العصبي أنما يبغي الأنتقال خارج المحيط الذي يعيش فيه هرباً وعزلةً وقلقاً من مواجهة الحياة الأجتماعية بما تحمله من سلب وإيجاب.

ويعرف جاسبيرس ( Jaspers, 1933) الإدمان ( Addiction)، بأنه ( فرار وهمي من الواقع المتمثل أمام أنظارنا)، ذلك لأن الإدمان ناشئ عن عدم قدرة الفرد على تحمل الواقع الذي يرغب الأنسان أن يزيله عن طريق الإدمان.

أما هيئة الصحة العالمية فتعرفه بانه حالة نفسية وعضوية تنتج من تفاعل الفرد مع العقار ومن نتائجها ظهور خصائص تتسم بإنماط سلوكيه مختلفة تشمل دائماً الرغبة الملحة في تعاطي العقار بصورة مستمرة أو دوريه للشعور بالأثارة النفسية والعضوية المرغوبة ولتجنب الأثار المهددة والمؤلمة التي تنتج من عدم توافره.


ويرى المحلل النفسي كابساتل ( Gabsattel, 1979) بأن الإدمان هو ( أغتصاب الذات والوجود). ولو تمعنا في التعاريف اعلاه نجد أن مشاعر الأكراه والحقد والغضب واللأنتمائية والهامشية والتطرف كلها بمثابة الحوافز الدافعة للإدمان، علماً بأن هكذا مفاهيم يضمها ويختزنها الأغتراب بشكل عام وبهذا ومن باب أولى أن نقول بأن الأغتراب يعد من الدوافع الأساسية التي تدفع الفرد للإدمان على تعاطي المخدرات، لأن المتعاطي يبغي من خلال التعاطي الى ملء الثغرات النفسية التي لايمكن ملؤها عن طريق السلوك الشخصي.

أننا في المجتمع العراقي مثلاً ونتيجة للعقود المظلمة والتسلطية والقاهرة التي مرت عليه أبان الحكم الصدامي العفلقي وماعاشه هذا المجتمع من ويلات الحرب التي دامت سنون طوال هيأت مناخات مناسبة لأن تدفع الفرد لوقوع في شباك الأغتراب سواء كان على المستوى النفسي ، الأجتماعي ، السياسي، الأقتصادي، الثقافي والديني بحيث أن الجيل الذي تخرج من تلك الحقبة المظلمة كان جيل حرب يفتقر كثيراً للمرتكزات التربوية والنفسية ،أستطيع القول أنه جيل يعاني كثيراً من إنخفاض في مستوى الصحة النفسية لديه بحيث يدفع هذا الكثير منهم الى الوقوع في شباك الإدمان رغبة منه في ملء الفراغ النفسي لديه وبالتالي ممارسة السلوكيات التي تضم في طياتها مجالات الأغتراب وإبعاده والتي تتمثل في التمرد والعزلة واللامعيارية واللامعنى للحياة بشكل أوسع.

أن الحروب وخاصة تلك الذي يشنها السياسيون المتعجرفون من الذين يحكمهم التعصب الأعمى تنعكس على الأفراد بنوع من مشاعر الخوف من الموت والخروج على المألوف والقانون ( التمرد واللامعيارية) وكذلك الشعور بالضألة ( الهامشية واللانتماء) وما الى ذلك من المشاعر والضغوط النفسية الأخرى، هذه المشاعر تمثل نوع من الأغتراب عند الفرد يدفعه بالنتيجة الى البحث عن مخلص أو مفر وهمي من هذا الواقع المعاش فيصبح في الكثير من الأحيان الإدمان ملاذه الوحيد والذي بأعتقاده يساعده على البقاء، فالحرب كما يعرفها أحد المفكرين بأنها ( رجالٌ بالغون يقتل بعضهم البعض دون معرفة السبب)،

 


 

وأن مثل هذه الحروب كالحرب العراقية الأيرانية والتي كان الفرد فيها يدفع عنوة الى الموت والهلاك وهو محاصر بين نارين أحدهما من جهة العدو الأيراني والثانية من جهة جلاوزة النظام العفلقي، فاما أن يموت بنيار العدو وأما أن يقتل بنيران الجلاوزه ويطلق عليه صفة جبان وتؤخذ ثمن الرصاصة من ذويه !!! فكيف والحالة هذه أن يتوافق الفرد بين هذين الأمرين المنحرفين ؟!! وكيف يمكن للتنشئة الأسرية والأجتماعية أن تعمل عملها في السلوك الشخصي في ظل هكذا ظروف وأن تبني جيلاً يمكن الأطمئنان عليه من أن لايقع فريسة الأغتراب وبالتالي فريسة الإدمان والتعاطي والتي تدفع الى الجريمة والأنحراف!!! وبالمناسبة فأن هناك العديد من الدراسات والأحصاءات التي تشير الى تأثير الحروب في زيادة عدد المدمنين ، فمثلاً الحرب الأهلية الأمريكية إدت الى أرتفاع عدد المدمنين بنسبة كبيرة جداً وكذلك بالنسبة لحرب فيتنام، وأن الحرب اللبنانية والتي انشئت جيل من المدمنين وخاصة بعد الحرب حيث تفيد الأحصاءات بأنه خلال عامي (75ـ76) كان ارتفاع عدد المدمنين يقارب (30%) وتضاف الى هذه النسبة التي تزداد وبشكل هندسي منذ (76ـ 85) حيث تبلغ نسب عالية تنذر بالخطر الكبير على المجتمع اللبناني، فكيف الحال بالعراق وخاصة أن هناك جيلاً نمى وترعرع على ثقافة الحرب وأفرازاته المتمثلة بالأغتراب والتشظي واللأنتمائية والتطرف والعدوانية والحرمان...الخ، فمن المؤكد تسفر هذه الحالة من أن هناك نسب عالية لتعاطي المخدرات والأدمان عليها ولكننا نجهل مقادير هذه النسب لأننا نعاني من ثغرات إحصائية( وهذا حال الدول المتخلفة) في هذا الميدان وخاصة عندما كانت العصابة العفلقية مهيمنه على البلاد وتمنع اقامة بحوث تتصدى لمثل هذه الظواهر، علماً بان كل المؤسسات التربوية والبحثية كانت مغيبة وهي الأخرى تعيش حالة من الأغتراب الثقافي وهذا ماتدلل عنة مخرجات هذه المؤسسات البائسة والفقيرة التي كانت تطلقها.

لقد تناول العديد من الباحثين والمختصين في هذا المجال دراسة العلاقة بين الأغتراب وتعاطي المواد المخدرة وتكاد تتفق هذه الدراسات بان هناك علاقة موجبة بين هذين المفهومين ، حيث قام متولي( 1989) بدراسة لمقارنة بعض أبعاد الشعور بالأغتراب لدى الطلبة المتعاطين وغير المتعاطين من طلاب الجامعة ، وأسفرت النتائج بوجود فروق دالة إحصائياً لكل من أبعاد( اللامعيارية، اللامعنى والتمرد) عند المتعاطي وغير المتعاطي لصالح المتعاطي كما وجدت فروق دالة بين المجموعتين في كل من ( العدوان، السيطرة المكبوته، الأستعراض المكبوت والجنسية المثلية ولصالح المتعاطين.



وتوصل وينفيلد وآخرون ( Winefield & other ., 1989 ) في دراستهم للخصائص السيكولوجية المرتبطة بالإدمان لدى عينه من الشباب الأسترالي تراوحت أعمارهم بين( 19ـ 22)سنة عن أرتباط الإدمان بالأغتراب الأجتماعي. والحقيقة ان هناك العديد من الدراسات والتي لامجال لذكرها تأزرت جميعها على إيجابية العلاقة بين الإدمان والأغتراب كدراسة جوزيكوف و زوبينوف ( Guizikov & Zobnev, 1997 ) ودراسة جاكسون وآخرون ( Jackson. & other.,1998) وغيرها.

أن خطر تناول المخدرات يكمن في أنها تعمل على تعميق المظاهر الذهانية والأضطرابات العقلية كما انها تخلق حالات ذهانية خاصة وحسب الجرعات المتناولة وحسب مدة التعاطي وكذلك قابلية الشخص، حيث توصل الباحثون بأن تناول هذه المخدرات والإدمان عليها يؤدي الى أحداث خلل في الوعي وهذا مايقلق أطباء النفس أزاء موضوع الإدمان ، ذلك أن من أولويات علم النفس هو الأهتمام في تنظيم الدفاعات الممكنة عن الصحة العقلية والنفسية ضد مايهدها وتأمين سلامتها وتقدمها، وينبغي هنا أن لاننسى دور المؤسسات الأعلامية في عملية ترويج وتعاطي المخدرات من حيث أن الكثير من هذه المؤسسات تقدم خطاب فعال يصل الى قطاعات كبيرة من المجتمع وبالتالي فأن لديها القدرة على غزو وتحويل ميول وأتجاهات المتلقي لما تقدمة من فعاليات وبرامج، وتكمن خطورة هذه الوسائل الأعلامية عندما تقدم نماذج من الأبطال المدمنين أو التجار والمجرمين على نحو من البطولة التي تدفع بقطاعات كبيرة من الشباب الى التوحد مع هذه النماذج وتقليدها، وخاصة عندما تكون هذه الوسائل الأعلامية غير آبهة بما يخدم أهداف الوقاية لذلك نراها تشكل عاملاً أساسياً لإنتشار مثل هذه الظواهر المدمره للمجتمع ونحن نلمس أن بعض الفضائيات العراقية تساعد من حيث تدري أو لاتدري على ترويج لهذه الظاهرة من خلال بعض المسلسلات الفارغة المحتوى والذوق والذي يؤديها بعض الممثلين المهرجين من الذين لاعلاقة لهم بالفن الأصيل الهادف لبناء المجتمع كأقزام بعض هذه القنوات التي تكشف كل يوم عن معدنها الرخيص وعدائها للعراق وبالطبع فأن فاقد الشيء لايعطيه.



أننا عندما نربط بين الأغتراب والتعاطي فأن هذه الرابطة تتأتى أساساً من الخصائص والسمات الموحدة لكل من المغترب والمتعاطي، حيث تتمثل هذه العلاقة الأضطرابات الشخصية والأكتئابية وخاصة أضطراب الشخصية الأعتمادية والأكتئابية والأنزوائية( العجز والعزلة) ثم يأتي أضطراب الهوية والذي يمثل عاملاً أساسياً في أغتراب الشخصية، علماً بأن الدوافع التي تساعد على التعاطي هي نفسية وأجتماعية وكلها تكمن في الأغتراب بما يحمله من أضطرابات على المستوى الشخصي والأسري والأجتماعي، ويمكننا إجمال أهم الخطوات الواجب أتباعها لعلاج المدمنين بالآتي:ـ



أولاً :ـ الوقاية النفسية التي تتركز على المستويين المادي والثقافي من حيث أعاده ثقة المدمن بنفسه وبالناس وبالحياة وبالمظاهر السياسية والأقتصادية والدينية أي بمعنى آخر العمل على قهر الأغتراب بكافة أنواعه وابعاده.

ثانياً :ـ تأمين المصحات المختصة لعلاج مدمني المخدرات والكحول لأن مثل هولاء يملكون الميول الكافية للعزوف عن التناول وذلك لنفس الأسباب التي دعتهم الى الإدمان.

ثالثاً :ـ تطبيق العلاج على طريقة الأرتكاز الشرطي والتي تجعل من المتعاطي يحس بالنفور وعدم تقبل المواد الخدرة مع إرفاقها بالعلاج النفسي الذي يرفع من ثقة ومعنوية المتعاطي ويوجهه كي يكون عنصراً أجتماعياً وفعالاً ويمنعه من التوجه الى بقية أنواع الإدمان.

رابعاً :ـ ينبغي تطويع العلاجات البيولوجية والنفسية والأجتماعية والدينية في سبيل مساعدة المتعاطي من التخلص من إدمانه، وهذا يعني أن نعمل على تمزيق شباك الأغتراب في هذه النواحي المنوه عنها وخاصة الأغتراب الديني الذي يعده الكثير من الباحثين بأنه أساس كل أغتراب.



خامساً :ـ أن مسؤولية القضاء على الإدمان هي مسؤولية مشتركة ووطنية هدفها الدفاع عن آدمية الأنسان وكينونيه وصحتة الجسدية والنفسية والعقلية ولذا ينبغي أن تتأزر كل الخبرات والأمكانات البحثية والصحية من أجل نشر الوعي وخاصة عند الشباب والطلبة والذين هم من أكثر الفئات العمرية عرضة للسقوط في براثن الأغتراب وبالتالي التعاطي وذلك عن طريق التوعية واقامة البحوث والدراسات في هذا الجانب بالأضافة الى تحفيز المرشدين التربويين في المدارس لأستخدام الأختبارات الكاشفة عن بعض هذه الحالات كتطبيق أختبار هينز ( Heinz, 1987) على الطلاب من أجل مساعدة المؤسسات التربوية لمعرفة الطلبة لذين هم بحاجه للمساعدة من أجل تحويله الى مراكز العلاج المختصة . وأخيراً ينبغي أن لاننسى دور القانون بأن يكون صارماً في القضاء على هذه الظاهرة التي تهدم المجتمع وحضارته والأنسانية بشكل أشمل.


المصدر : www.alnoor.se