طباعة

الدولة والجسد في مقدمة ابن خلدون

Posted in الثقافة

كفي ابن خلدون شرفاً، أنه جعل جملة “الدولة جسد” مفهوماً يحيل إلى الاجتماع لا إلى الانعزال، أي يكفيه أنه جعلنا نفهم الدولة لا بعقل الفيلسوف المنعزل في برجه العاجي الذي يحلم بمدينة الخير المثالية، بل بعقل المؤرخ الاجتماعي الذي يعيش في مدينة تحكمها تناقضات القوة والضعف، والفتوة والهرم، والحضارة والبداوة، والصحة والمرض، والعمران والخراب.
بقدر ما نحسن فهم جملة “الدولة جسد”، نفهم مقدمة ابن خلدون، ونفهم جدل تناقضاته، ونفهم سر عظمته، وسبب راهنيته. فما الذي تختزله هذه الجملة؟

إنها تختزل الطريقة التي كان يرى من خلالها ابن خلدون موضوعه، سواء كان الدولة كما ذهب طه حسين أو العصبية كما قال ساطع الحصري أو البداوة والحضارة وما يقع بينهما من صراع، كما يقرر الوردي. يبقى مفتوحاً سؤال إلى أي الموضوعات تشير مقدمة ابن خلدون:”ونحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتدفع بها الأوهام وترفع الشكوك”([1])
كان ابن خلدون يرى ما يعرض للبشر في اجتماعهم من عصبية وعمران ودولة، بآلية الشاهد والغائب، “كان الشاهد لديه الطبيعيات والطبيات والجسد الإنساني بأعضائه وأحشائه فاتخذها أصلا قاس عليه، وكان الغائب العمران البشري والاجتماع الإنساني بما فيه من عصبية وحسب ونسب ومدن وبوادٍ فرعاً مقيساً. وهذا القياس هو ما جعله شهيراً في مختلف العصور”([2])

نرى الغائب من خلال الشاهد. بقدر ما نحسن اختيار الشاهد والتصرف به تصرفاً يطوعه ليكون أداة رؤية، نبدع في ابتكار الغائب. كانت مقدمة ابن خلدون مبدعة ومبتكرة للعمران البشري والاجتماع الإنساني وما يتقوم بهما من عصبية وحسب ونسب ومدن وبوادٍ. كانت مبدعة بتصرفها في الجسد الشاهد. وهذا ما جعل ابن خلدون متمايزاً عن جميع من كان يوظف آلية الشاهد والغائب من علماء كلام وفقهاء ومناطقة وفلاسفة. كيف تصرف ابن خلدون في (جسده) على غير تصرف من سبقه؟
FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed